مافيا سوق الأسهم؟ أسرار تُباع ومكاسب تُغسل “منظمات إجرامية نشطة”

"مافيا سوق الأسهم؟ أسرار تُباع ومكاسب تُغسل "منظمات إجرامية نشطة

من المعروف أن الأسواق المالية لا تتحرك بالأرقام وحدها، فدائمًا هناك “معلومة” تسير قبل السعر وتؤثر فيه. ولكن عندما تكون هذه المعلومة مسروقة أو مسرّبة من داخل المؤسسات، وتُستغل لتحقيق مكاسب على حساب الآخرين، يصبح السؤال مشروعًا: هل هذا خلل تنظيمي أم جريمة مكتملة الأركان؟

مهما يُكتب هنا لا يصدر عن مختص قانوني أو مسؤول التزام (compliance officer)، ولذلك قد توجد أخطاء أو ملاحظات قانونية تحتاج إلى تدقيق و تعديل، غير أن ما أطرحه يأتي من خبرة ميدانية تمتد لأكثر من ثلاثٍ وعشرين سنة في العمل المصرفي والاستثماري، ومن واقع التجربة المباشرة مع الأسواق. اما الهدف الأساسي هو تسليط الضوء على نشاط لا أخلاقي يمارس في سوق الأسهم.

القانون الكويتي واضح في تعريف الجريمة بأنها كل فعلٍ يشكل اعتداءً على مصلحة يحميها القانون ويُعاقب عليه بنص جزائي. وبموجب قانون هيئة أسواق المال رقم 7 لسنة 2010، وتحديدًا المادة (118)، فإن تسريب أو استغلال المعلومات السرّية داخل السوق يُعد جريمة يعاقب عليها القانون، وليس مجرد مخالفة بسيطة. فالمعلومة داخل السوق تُعتبر أصلًا ماليًا بحد ذاتها، ومن يستخدمها بطريقة غير مشروعة يعامل كمن استولى على أموال الغير بوسيلة غير مباشرة.

في السنوات الأخيرة، برزت ظاهرة مقلقة في السوق الكويتي. هناك جهات منظّمة تسعى للحصول على معلومات من داخل شركات الوساطة لمعرفة من يشتري، ومن يبيع، وإلى أين تتجه المحافظ الكبيرة. هذه ليست ممارسات عشوائية، بل أساليب مقصودة لتحليل تدفقات الأموال واستغلالها في التلاعب بالأسعار، ونشر الشائعات، وجني الأرباح غير المشروعة.

من وجهة نظري كمستثمر يخاطر بأمواله يوميًا، ما يحدث هنا ليس مجرد تسريب، بل ثلاث جرائم مترابطة في الوقت نفسه:


الأولى، جريمة إفشاء معلومات سرّية تخصّ العملاء أو التداولات، وهي محظورة بموجب المادة (118) من القانون رقم 7 لسنة 2010 بشأن إنشاء هيئة أسواق المال وتنظيم نشاط الأوراق المالية، والتي تنص على ما يلي:

يُحظر على أي شخص أن يفشي أو يستغل، لتحقيق مصلحةٍ لنفسه أو لغيره، أي معلوماتٍ سرّية تتعلق بالأوراق المالية أو بالعملاء أو بقرارات الشركات قبل إعلانها، ويُعاقب على ذلك بالحبس والغرامة أو بإحدى هاتين العقوبتين.” وبذلك فإن تسريب المعلومات أو تداولها خارج إطارها القانوني يُعد جريمةً واضحة تمسّ نزاهة السوق وثقة المستثمرين فيه.


الثانية، جريمة غسل أموال، لأن الأرباح الناتجة عن هذا السلوك تُعد ناتجة عن مصدر غير مشروع. ووفقًا لما ورد في المادة (2) من القانون رقم 106 لسنة 2013 بشأن مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب:

يُعد مرتكبًا لجريمة غسل الأموال كل من علم أن الأموال متحصلة من جريمة، وقام بتحويلها أو نقلها أو إخفاء أو تمويه حقيقتها أو مصدرها أو مكانها أو طريقة التصرف فيها أو ملكيتها أو الحقوق المتعلقة بها، أو اكتسابها أو حيازتها أو استخدامها بقصد إضفاء صفة المشروعية عليها.”

أما الثالثة، فهي جريمة الرشوة أو التحفيز غير المشروع، إذ إن تنفيذ مثل هذه الأفعال يتطلب غالبًا شبكة من الأشخاص داخل المؤسسات يتلقون مقابلًا ماديًا أو معنويًا لقاء تمرير المعلومات أو تسهيل الوصول إليها، وقد يكون هذا المقابل في شكل مال مباشر أو توصية مثل “اشترِ هذا السهم”. وبهذا، يتحول الفعل إلى اتفاقٍ مشترك يهدف إلى تحقيق منفعة مالية بوسائل غير قانونية.

هذا بحد ذاته يمثل السوق السوداء داخل البورصة، له عرض وطلب، وله زبائن ومورّدون، ويتحرّك مثل أي سوق موازٍ قائم على المعلومات المسروقة. الأخطر من ذلك أنه قد يشكّل إغراءً للبعض من محدودي الخبرة ممن يرون أن “المال موجود بالفعل على الطاولة”، فيندفعون وراء الطمع والرغبة في تحقيق دخل إضافي بأي وسيلة، دون إدراك أنهم يشاركون في بناء اقتصادٍ خفيّ يقوم على الجريمة لا على الكفاءة.

وبذلك، فإن من يسرّب المعلومة، ومن يستفيد منها، ومن يمهّد الطريق لتنفيذها، جميعهم داخلون في نطاق الجريمة وفق أحكام القانون، إذ إن الأرباح الناتجة عن استغلال المعلومات السرّية تُعد عائدًا غير مشروع، وتقع تحت طائلة القوانين المنظمة لمكافحة غسل الأموال والرشوة.

هذا السوق الأسود بات يتوسع ليتحوّل إلى اقتصاد مصغّر قائم بذاته، فهو يتغلغل الآن في المشهد الإعلامي، سواء عبر بعض المصادر الإخبارية أو عبر مؤثرين أو وكالات أنباء مرخّصة تستغل القنوات الرسمية لترويج رسائل قد تخدم مصالح الفاعلين. الأسوأ أن هذا التسرب لا يبقى محصورًا بالوسطاء المتواطئين فحسب، بل يمتد ليشمل جهات قانونية واستشارية تقدم مشورة فقهية وقانونية تُستخدم لتقنين الممارسات أو لتوفير مظلّة قانونية ظاهرية للمخالفين، ما يمنحهم قدرة على تنظيم نشاطهم وتوسيعه بشكل أكثر أمانًا واستدامة.

القانون في هذا الجانب موجود وواضح، كما أن هيئة أسواق المال تطبّقه بجدية وتوثّقه في لوائحها التنفيذية بشكل منظم. وتجريم الفعل بحد ذاته خطوة قوية وأساسية في مكافحة الجريمة، إلا أن وجود الإطار القانوني وحده لا يكفي. القوة الحقيقية تكمن في بناء آلية إجرائية دقيقة تتيح تتبّع كل خطوة تُنفّذ داخل النظام، بحيث يُجبر المخالف على ترك أثرٍ يقود إليه. هذا هو الفارق بين وجود قانون وبين وجود نظام يُطبّق بذكاء. ما يثير القلق اليوم هو أن هذا النوع من الأفعال الإجرامية بات يتزايد حتى أصبح في بعض الأوساط سلوكًا شبه “اعتيادي”. والأسوأ من ذلك أن بعض العاملين في القطاع المالي، من وسطاء ومديرين تنفيذيين ومتداولين غير ملتزمين أخلاقيًا، يمارسونه بثقة وكأنه امتياز غير معلن ضمن عملهم اليومي.

الحل لا يكمن في العقوبة وحدها، بل في ضبطٍ عمليّ لتدفُّق المعلومات داخل السوق يجعل المخالفين يتركون آثارًا واضحة يمكن تتبعها ومحاكمتهم. ملاحقة هؤلاء “بالجرم المشهود” صعبة لأن الجريمة هنا شبحية: لا مسرح جريمة، لا سلاح، ولا حمض نووي، وغالبًا لا تتضح جهة الضحية بسرعة. لذلك يتطلب الأمر تدابير إجرائية ذكية داخل قواعد السلوك (Code of Conduct) وداخل أنظمة التشغيل لدى الوسطاء والبورصة لخلق أثر رقمي يدل على المتورطين. أقترح تنفيذ الخطوات التالية فورًا:

  1. تفعيل سجلات الوصول والتنبيهات (Log Alerts) بشكل افتراضي لكل حساب مستثمر أو متداول
    • عند تفعيل مالك الحساب للإشعارات يكون مُعلمًا فورًا بمن يصل إلى بيانات محفظته: اسم الموظف، الجهة/القسم، التوقيت، وعنوان الـIP أو الجهة التقنية.
    • على النظام أن يطلب من كل من يدخل سبب الدخول؛ خيارات مرمزة (دعم فني– اختبار نظام– استعلام عميل– إجراء إداري) مع خانة شرح قصيرة إجبارية عند اختيار أي سبب غير قياسي.
    • تُعرض هذه السجلات لصاحب الحساب في واجهة بسيطة قابلة للتصفُّح والتصدير، مع زر “تبليغ” سريع لإرسال شكوى مُصغّرة إلى إدارة الامتثال والرقابة في الشركة وهيئة أسواق المال.
    • وجود هذا السجل والالتزام بتوثيق السبب يرفع من تكلفة التواطؤ ويجعل كل عملية وصول قابلة للتتبّع والتحقيق.
  2. تقييد تقارير المساهمين اليومية وآلية الحصول عليها بحيث تَنتج أثرًا بدلاً من فتح باب التعقب
    • يُسمح بنشر قوائم المساهمين بشكل يومي فقط للحاملين لحصص مسجّلة 2% فأكثر، أو في حالات استثنائية محددة بمبرر رسمي (مثل إجراءات استحواذ واضحة أو دعوة للتصويت).
    • إذا رغبت شركة مدرجة أو طرفٌ في الحصول على بيانات مالكين أصغر من 2%، فيكون ذلك عبر طلب رسمي مَسجَّل يقدم للشركة المدرجة يوضح الهدف والمبرر القانوني؛ تُسجِّل الشركة كل طلب، وتُصدر تقريرًا مُقيّدًا للجهة طالبة المعلومات بعد التحقق، مع حفظ أثر الطلب في سجلات يمكن للجهات الرقابية الاطّلاع عليها لاحقًا.
    • الهدف هنا ليس تقييد الشفافية المشروعة بقدر ما هو تحويل أي عملية استعلام إلى عملية مُوثَّقة تترك أثراً يمكن تتبّعه إذا استُغلت لاحقًا.
  3. فرض آليات داخلية لفرق الامتثال في شركات الوساطة: مراجعات دورية، اختبارات اختراق داخلي (Audit Trails) وعقوبات إدارية سريعة
    • فرق الامتثال تقوم بتدقيق السجلات أسبوعيًا على الأقل وتنبه الإدارة للأنماط غير الطبيعية (وصول متكرر من نفس الـIP، طلبات مبررة بلا عمل فعلي، إلخ).
    • تطبيق عقوبات داخلية فورية (تجميد حساب الموظف، إخطار النيابة أو الهيئة) عند دلائل قوية، لتُصبح المخاطر الوظيفية والعقابية جزءًا من ردع السلوك.
  4. تبسيط قنوات الإبلاغ لحماية المبلغين وإتاحة تحقيق سريع من الهيئة
    • قناة إبلاغ رقمية مبسطة يَصل فيها البلاغ إلى لجنة تحقيق مُخصصة داخل الهيئة، مع حماية هوية المبلّغ وإمكانية متابعة حالة الشكوى عبر رمز متابعة يُعطى للمبلغ.

 

هذه الإجراءات تُحوّل بيئة العمل من بيئة تُسهِم في إخفاء الأدلة إلى نظامٍ يولّد آثارًا رقمية دائمة، مما يُسهّل تتبع سلسلة الأوامر وصولًا إلى الرأس المسؤول. الأهم أن هذه التعديلات ليست مكلفة تقنيًا: معظمها يعتمد على تفعيل سجلات موجودة، إضافة قواعد عملية لطلب سبب الدخول، وفرض إجراءات امتثال ومتابعة منتظمة.

في النهاية، الهدف هو خلق سوقٍ لا يمكن فيه “ترك المال على الطاولة” بدون ثمن؛ سوقٍ يجعل من محاولة استغلال المعلومات نشاطًا محفوفًا بالمخاطر الجنائية والمهنية، وليس مصدر رزق سهلًا لمن يسعى وراء الربح بغير كفاءة.

هذا المقال ليس شكوى، ولا تشكيكًا في جهود هيئة أسواق المال أو الجهات الأمنية، بل هو محاولة لرفع مستوى الوعي حول ظاهرةٍ تُهدد الثقة والعدالة في السوق. فالقوانين موجودة، والرقابة قائمة، لكن الجريمة تتطور بسرعة، وتتخفى خلف أنظمةٍ يصعب رصدها بالعين المجرّدة.
إن هذا الطرح لا يعني أن الأجهزة الرقابية ضعيفة، بل هو تأكيد على أن القضية نفسها قيد المعالجة من تلك الجهات، بينما أعبّر أنا هنا من زاوية مَن تضرر فعليًا من هذه الممارسات، ومن منطلق واجبي كمستثمر يرى أن السكوت لم يعُد خيارًا.
الهدف هو توجيه رسالة واضحة إلى كل شبكةٍ أو جهةٍ منظمة تعتقد أن تسريب المعلومات بات واقعًا لا يمكن ردعه: المواجهة بدأت بالفعل، وبجميع الوسائل الممكنة، قانونيًا وتنظيميًا وإعلاميًا.
فالمستثمر الحقيقي لا يخشى خسارة ناتجة عن حركة السوق الطبيعية، بل يخشى سوقًا تُدار في الخفاء.
إن العدالة الحقيقية في السوق لا تتحقق بالأرباح السريعة، بل بحماية المعلومة، لأنها هي رأس المال الذي يملكه الجميع.

وأخيرا: في لعبة الاحتمالات، من المرجّح أن تقوم بعض المؤسسات التي تمتلك مفاتيح المعلومات الحساسة بالتستر على التسريب، لا لأنهم شركاء في الجريمة، بل لأنهم يخشون فقدان أولئك “الموظفين” الذين يدرّون أرباحًا عالية على المؤسسة. وهكذا، تُختزل الأخلاق في معادلة تجارية باردة: اكسب اليوم وتجاهل الخطر غدًا.
وإذا صحّ هذا الاحتمال، فإن المتداول النزيه سيبقى وحيدًا في الميدان، يحمل عبءَ الخسارة وعبءَ السمعة معًا، ويُحاكم لا لأنه أخطأ، بل لأنه وثق بسوقٍ فقد ستره وأمانه.

 

Similar Posts

  • بناءً على تقريرنا الصادر بتاريخ 14 أبريل 2025 بشأن سهم شركة العربية العقارية رابط التقرير، عندما كان السهم يتداول عند مستوى  84 فلسًا، افترضنا آنذاك أن السعر سيشهد ارتفاعًا بنسبة تقارب 20% إلا أن السوق – وكما هو معروف – يبقى غير قابل للتنبؤ ومليئًا بالمفاجآت. فقد تجاوز أداء السهم توقعاتنا بشكل لافت، حيث ارتفع…

  • هذه دراستنا السابقة و المنشورة في ابريل 2025 نظرتنا للسهم من الناحية الأساسية والفنية، كانت رؤيتنا إيجابية منذ البداية، وجاءت نتائج النصف الأول لتؤكد التزام الإدارة التنفيذية بالمسار المعلن في تقرير عام 2021. الأداء الأساسي تشهد ديون الشركة انخفاضًا مستمرًا، يقابله توفر مستوى مريح من السيولة النقدية، ما يعكس قوة المركز المالي واستقراره دون أي…

  • إشارةً إلى منشورتنا بتاريخ  25 أكتوبر بشأن سهم أعيان العقارية، و تقريرنا الصادر في  26 أغسطس 2025، نرى أن السعر الحالي عادل مع إمكانية صعود تقارب 20٪ استنادًا إلى حركة السهم والنتائج المالية الأخيرةتتمتع الشركة بتمويل ذاتي قوي وتدفقات نقدية مستقرة، ما يمنحها مرونة عالية لعقد صفقات جديدة عند توفر الفرصويُظهر الرسم البياني المرفق اختراقًا…

  • نفهم السوق كما هو، لا كما يُعرض في المسلسلات كثيرون يظنّون أن المحلّل الفني هو من يصنع الثروة، وأنه يعرف متى تشتري ومتى تبيع، وكأنه يمتلك مفاتيح الغيب. لكن الحقيقة مختلفة تمامًا — فالمحلّل يقرأ المشهد فقط، ولا يشارك في المعركة. هو كمن يقف عند مسرح الجريمة، يراقب، ويفسّر، ويستنتج… لكنه لا يعتقل أحدًا ولا…

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *